الشروق المغربية : سناء الوحش
*المحمدية… حين انطفأت مدينة الزهور وابتلعها الإسمنت: صرخة فضالة التي تنادي أبناءها.*
كانت المحمدية — أو فضالة كما عرفها التاريخ — مدينةً من نورٍ وزهرٍ وبحر. مدينة تشبه قصيدة، وتتنفّس كصباح ربيعي، وتتمدد بخجل جميل بين الأمواج والحدائق. اسمها القديم بقي مثل نقش على صخرة لا يمّحي:
“فضالة”… مدينة الفضل، مدينة الوفرة، مدينة الكرم الطبيعي.
لكن الزمن تغيّر…
والمدينة انحنت للعاصفة.
الزهر ذبل…
والبحر صمت…
والإسمنت ارتفع مثل جدارٍ يطوّق العنق.
اليوم، لم تعد المحمدية مدينة الزهور… بل مدينة بلا رئة، بلا فراغ، بلا خضرة، بلا ذاكرة.
*1. من ملعب البشير إلى الجرف… حين بكت الأرض ولم يسمعها أحد*
في الماضي، كانت المساحات الممتدة من ملعب البشير إلى الجرف، مرورًا بمنطقة الحَطَبة، أرضًا رطبة، zones de marécage، تُشكّل رئة مائية للمدينة.
أما اليوم، فقد تحوّلت إلى عمارات فاخرة بُنيت فوق أراضٍ رخوة محظور دوليًا البناء فوقها.
ليس لأن القانون غائب…
بل لأن جشع العقار كان أكبر من القانون نفسه.
المياه التي كانت تتسرّب بهدوء تحت التربة صارت اليوم محاصرة تحت الإسمنت، مما يهدد المدينة بفيضانات مستقبلية، وتشققات، ودورة بيئية مختلّة.
كانت تلك المناطق تقول للمدينة:
“أنا حزامك الطبيعي… لا تخنقيني.”
لكن أحدًا لم يُصغِ لصوت الماء.
*2. المدن تتغيّر… لكن المحمدية تغيّرت بطريقة تُوجِع القلب*
العمارات الجديدة لم تأتِ بالخضرة، ولا بالحدائق، ولا بمواقف السيارات، ولا بفضاءات للأطفال.
إنها عمارات تلتهم ما حولها كما يلتهم الجمر آخر أوراق الخريف.
حتى البقع التي كانت مخصصة في تصاميم التهيئة للمساحات الخضراء
التهمها الإسمنت بالتحايل، بالاستثناءات، وبقوانين تُفصَّل على مقاس المستثمرين.
باستثناء الرباط، لا تكاد مدينة مغربية كبرى تنجو من هذا الزحف…
لكن المحمدية كانت الأكثر هشاشة لأنها كانت الأجمل. والأجمل دائمًا هو الأكثر عرضة للنهش.
*3. كيف تَطْرُدُ مدينةٌ سكانها الأصليين؟*
*قصة نزيف صامت اسمه “التمييع الحضري” (Gentrification)***
لم يعد لأبناء فضالة مكان في قلب فضالتهم. الأسعار تضخّمت، ثم تضخّمت، ثم اشتعلت. فقط شقق أو صناديق مايسمى بالسكن الاجتماعي هي التي بقيت تابثة في اسعارها رغم انً تلك التي تبنى وسط المدينة وهي قليلة جدا بالمقارنة مع تلك التي تبنى في الضواحي والهوامش كما لو تم تصميمها للمطرودين، تُباع “وهي حبر على ورق”، بالمحسوبية، وبتسبيقات تفوق 10 ملايين سنتيم.
أما السكن الاجتماعي، فدُفع به إلى الهوامش بعيدًا عن الروح الأصلية للمكان.
*النتيجة:*
• أهل المدينة الأصليون اختفوا.
• بعضهم هاجر خارج المغرب.
• وبعضهم هُجّر داخليًا إلى ضواحٍ بعيدة.
• وغيرها امتلأت بسكان جدد من كل ربوع المملكة، خصوصًا الباحثين عن السكن الشاطئي.
وهنا جوهر “la gentrification”:
إنها ليست فقط رفعًا للأسعار…
بل هي استراتيجية اجتماعية غير معلنة يُمارس فيها الأغنياء — أو من يعتبرون أنفسهم كذلك — نوعًا من “كره الأحياء الشعبية” ورفضًا لمجاورة الفئات البسيطة. ولذلك يرفعون الأسعار عمدًا، ويؤسسون فضاءات مغلقة تليق بما يصفونه بـ“المستوى”، حتى تصبح المراكز حكراً عليهم وحدهم.
هكذا يُدفَع الفقراء إلى الهامش، ويُحتل الوسط، ويُعاد رسم الخريطة الطبقية للمدينة.
وكأن رسالة الإسمنت كانت واضحة:
“ارحلوا… فالأغنياء لا يحبون مخالطة الفقراء.”
*4. السياسة حين تفقد الذاكرة… والمدينة حين تفقد من يحميها*
في الثمانينات والتسعينات، كان منتخبون من أبناء المحمدية يعرفون “الناس” والحيّ والبحر والوردة.
أما اليوم، فالمنتخَب والناخب كلاهما — في أغلب الحالات — ليسا من أبناء فضالة.
المجالس أصبحت بلا ذاكرة… بلا حنين… بلا غيرة على المكان.
كيف يحمي مدينةً من لا يعرف حكايتها؟
من لم يشمّ رائحة الورد في شوارعها؟
من لم يكبر بين موانئها ومقاهيها وملاعبها وأزقتها؟
حين تفقد السياسة جذورها تفقد المدينة من يدافع عنها.
*5. مرثية… ولكنها مرثية فيها أمل*
نعم… هذا المقال مرثية.
لكن المرثية ليست للبكاء…
بل للتذكير.
للإنذار.
لأن المدن لا تموت إلا حين يصمت أبناؤها.
فضالة تناديكم،
والمحمدية تنتظر من يعيد لها رئتها،
ومن يعيد للبحر صوته،
وللحدائق خضرتها،
وللذاكرة مكانها.
*6. الحلول الواقعية لإنقاذ المحمدية من غول الإسمنت*
هذه ليست كلمات في الهواء…
هذه خطة عملية قابلة للتنفيذ:
1. حماية المناطق الرطبة رسميًا وتجميد البناء فيها وإدراجها في لائحة RAMSAR أو محميّات وطنية.
2. مراجعة تصاميم التهيئة عبر لجنة مستقلة تضم خبراء بيئة وهيدرولوجيا وممثلين عن السكان.
3. فرض نسبة 20% مساحات خضراء على أي مشروع جديد لا عمارة دون حديقة. لا إسمنت بلا رئة.
4. التحقيق في تغيير تصنيف البقع الخضراء ومحاسبة من هرّبها بطرق ملتوية.
5. إعادة زرع “مدينة الزهور” فعليًا
عبر إحياء المسارات الخضراء، غرس آلاف الأشجار، وإعادة تأهيل الحدائق.
6. سياسة سكنية عادلة تحمي السكان الأصليين كوطة لأبناء المدينة، منع المضاربات، وإتاحة الشقق بأسعار منطقية.
7. إعادة أبناء فضالة إلى المجالس
عبر حملات مدنية، جمعيات حي، ولجان متابعة شفافة.
*صرخة أخيرة قبل أن يُسدّ باب الأمل*
يا أبناء المحمدية…
يا أبناء فضالة…
يا أبناء الزهر الذي صمد رغم العواصف…
هذه ليست مجرد مدينة.
إنها ذاكرة.
إنها قصة.
إنها حياة.
ولا حياة تُترك للإسمنت كي يكتب نهايتها.
المدينة التي كانت مدينة الزهور
لا تستحق أن تموت تحت غبار البناء.
والمدينة التي كان اسمها فضالة
لا تستحق أن تُنسى…
ما دام البحر شاهدًا،
وما دام في القلب ذرة غيرة.



