د. عبد اللطيف سيفيا
بقية الحديث … إن السياسة المبهمة والمقصودة التي ينهجها الحكام العرب في تسيير بلدانهم ، هي التي تتسبب في التيه لدى الشعوب العربية بين فهم الذات وفهم المطلوب منهم وفهم العديد من الأمور الأخرى المشتركة والعامة منها أو الفردية والخاصة ، مما يجعل الاستيعاب لديهم متعذرا أو سطحيا ، غالبا ما يسير في نفق مسدود تسيطر عليه العتمة مما يحول بين تحقيقهم لآمالهم ورغباتهم وتطلعاتهم ، التي تبقى عالقة بين سياسة التسويف الممنهج التي يكرسها هؤلاء الحكام ومن والاهم باتباعهم لأساليب المراوغة والتماطل وتفعيل آلياتها ومقتضياتها اتباعا لفكرة ” كم حاجة قضيناها بتركها ” ، وبين ضياع الفرص والآمال المعقودة والمجهودات المتظافرة التي تصب في وجهة أكيدة دون غيرها ألا وهي الإحباط الشامل وفقدان الثقة لدى الشعوب العربية التي تجد نفسها داخل دوامة الضياع ، هذه الثقة التي تكاد تكون معدومة في قاموس سياسييها، لأن التاريخ يحدثنا عن السياسة على أنها الخداع والمكر والحيلة ويثير الجانب الأسود والسلبي منها أكثر من غيره ، ويكاد أن يكون الغدر هو العلامة الفارقة للسلطة السياسية، حتى إن الساسة يستجدون إيجاد المسوغ الشرعي لما يقومون به من غدر ونكث للعهود والوعود في تعاملهم مع خصومهم السياسيين أو مع الرعية، بحيث يعدون نكث العهود من ضرورات السياسة للاستمرار في السلطة والاستئثار بها . ففرضية الثقة شرط واجب توفره بين الحاكم والمحكوم إن رغب الأول في استمرارية ضمان مصداقيته لدى الثاني وكسب رهان الود وتخطي الصعاب بسلاسة يضمنها التعاون والتآزر والتراضي وشق طريق التعايش بأمن وسلام، وبالتالي فإن المحكوم يشعر بالاطمئنان لنوايا الحاكم وسلوكياته وعدم الخوف منها وحملها على محمل صدق النوايا، وقد يكون هذا المسؤول السياسي قدوة للمواطنين الذين يحذون حذوه ويأتمرون بأمره ويرضون بحكمه ويتخذونه مثالا قائم الذات والصفات ونبراسا في الحياة ، وعكس هذا الأمر يكون عاقبته على ، الحاكم وأعوانه ، مع الشعب مختلفة تماما عما هي عليه مع الطغاة والمخادعين والقامعين لشعوبهم ، كما أن هذه الثقة تضمن انتقال المجتمعات من حال إلى حال وتطور الدول من وضعية إلى وضعية مغايرة، ويضمن كذلك ما يعبر عنه برأس المال الاجتماعي ، ويعني هذا المفهوم مكونات رأس المال البشري ، والذي في الأساس هو الأصل والمفصل ، والجامعة الشاملة التي تسمح لأعضاء مجتمع ما بالتعامل المشترك في ظل منظومة أخلاقية قوامها الثقة المتبادلة . فالثقة لها أثرها الإيجابي في تحقيق النمو والازدهار في المجتمعات ، كما تمثل قوة أساسية للثقافة في خلق مجتمع اقتصادي وسياسي … متماسك ومتجانس. فقدرة المجتمع على التعاون وتعزيز جوانب الثقة فيما بين أفراده من ناحية، والثقة فيما بين الفرد والحكومة، تعزز الرخاء والازدهار في بلد ما. ، كما تولد الارتياح والألفة والأمن والأمان بين أفراد المجتمع ومكوناته وتضمن التواصل بينهم وتوطد دعائم التعامل في كل ميادين الحياة وتكرس مصداقيتها وثقافتها بين الأفراد والمؤسسات النظامية وغير النظامية من أقصاها إلى أدناها وتزكيها وتباشر تعليماتها وقراراتها بكل رضا وأريحية في ظل القانون الذي ينظم العلاقات بينهم . كما أن القيم عندما تزدهر بتصرف الأفراد انطلاقا من أخلاقيات تعتبر أساسا لبناء الثقة بينهم، وتجعل التضامن هدفا في ذاته، بغض النظر عن المصالح الذاتية. ويؤدي غياب الثقة والتضامن إلى فقدان فرص التقدم الاقتصادي، بسبب ما يطلق عليه علماء الاجتماع “العجز في رأس المال الاجتماعي” .فالشعوب العربية تعاني أزمة ثقة في أنظمتها السياسية، تلك الأزمة التي اصبحت جزءا من الذات العربية و بالتالي أصبحت ثقافة الأمتين ، العربية والإسلامية ، العامة والشخصية كذلك قائمة على التشكيك و عدم الثقة بالذات ، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة و المجالات الاقتصادية و العلمية و غيرها… ولعل ما عايشته تلك الشعوب من سنوات طوال وهي تردخ تحت ظل أنظمة سياسية ميؤوس منها ، ساهم بشكل كبير جدا في غرز مفهوم عدم الثقة بالذات و بالأنظمة، من بين الأسباب الكثيرة والقوية التي كانت كنتيجة طبيعية لنمط سياسي ساد لسنوات طويلة وساهم في صقل نمط تفكير سلبي معين و رسم خريطتها و كرس برمجتها. لكن الاخطر في الموضوع هو عدم تقبل وعدم القدرة على تقبل ما هو ايجابي و كل تغيير ايجابي قد يحصل ، مهما كانت طبيعته ونتائجه ، فلم تعد لدى تلك الشعوب ثقة بأن هناك من يخاف عليها و يحمل همها و يمكن أن يفكر في إيجاد حلول لمشاكلها ويعمل من اجلها، ويضحي في سبيل إسعادها وخدمة مصلحتها ، مما يجعل هذا الأمر أخطر ما انتجته سنوات الجهل السياسي و النظام الفكري العقيم الذي حكم البلاد والعقول العربية والإسلامية لسنوات ضاربة في الزمن. مما أقصى من قاموس أخلاقيات التعامل كل ثقة بالذات وجعل مستحيلا الثقة بكل ما يمكن ان يغير الحال لحال أفضل، فترى أن المجتمع المصغر يحبط أي محاولة للتميز و يشدها للوراء ، مهما كانت استشرافاتها و مهما تميز أصحابها بضوابط ومواصفات النضال والمروءة والضمير الحي والنية الحسنة ، ليطرح كل ذلك موضع شك وريبة ويؤول ، بالإضافة إلى كل هذا ، إلى الإقصاء الممنهج من طرف أي كان بسبب انعدام الثقة ، بمن فيهم ذوي النيات السيئة الذين يترصدون للشرفاء ويتربصون بهم للإيقاع بهم في شراك الإقصاء ، حتى يخلو لهم المجال لتكريس سياستهم وتحقيق أهدافهم الخبيثة التي تخدم مصالحهم الخاصة… و هذا يمكن تعميمه على المجتمع الأكبر للدولة و التي يتداخل بها الكثير من الضوابط و العوامل لتجعل منها أكبر و أخطر. ان ما يعايشه الشعب العربي اليوم من ازمة ثقة و ازمة شك و تشكيك القى بظلاله على علاقته بالآخر وحتى علاقته بنفسه فينتابه الشك في كل شيء وتختلط لديه الأوراق ولا يصبح قادرًا على التمييز بين ما هو جدي وما هو هزلي وما هو قيم وما هو تافه وما هو مناسب وما هو غير مناسب وما هو مقبول وما هو مرفوض وما هو لائق وما لا يمت للياقة والمعقول بصلة وما هو مشروع وما هو غير مشروع . فما زالت الشعوب تعيش تلك الازمة و ما زالت غير مقتنعة بما يمكن ان يكون خيرا للامة، و ما زالت تؤمن بنظرية المؤامرة و الشك، حتى ان نظرية المؤامرة اصبح يتداولها الصغير و الكبير و يفتي بها العالم و الجاهل. قد لا تلام هذه الشعوب على ما تعانيه من تخبط وشك و أزمة نفسية سياسية لما عايشته، بقدرما يلام بشدة من لا يحاول الخروج من عنق الزجاجة ويلام بشدة أيضا من لا يحاول ان يخرج من قمقم تحجرت به افكارنا . فعلينا أن نكسر أغلال عقولنا و نحاول أن نخرج من عقولنا سموم الشك و التآمر و قلة الثقة، لنكسر الصندوق الذي يخبئ بداخله كل أفكارنا القديمة المهترئة و نمط تفكيرنا السطحي الموجه بالريموت، و لنخرج من منظومة الذم و القدح و عدم التصديق وإصدار أحكام رافضة مسبقا على الأمور التي نوجهها لكل محاولة للتغيير . لهذا فعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تنفض على نفسها غبار السلبية وتبني خطاب الانفتاح والإيجابية بإحياء الثقة في النفس وإفشائها فيما بين شعوبها ومكونات مجتمعها مؤسساتها التي تقوم بتسيير بلدانها وأنظمتها بكل إستقلالية وحرية واهتمامها بما يجدي ويفيد وليس بما يفسد أخلاق شعوبها ومبادئها وعلاقاتها ، ويوسع الهوة بينها ، بل يجب توطيد العلاقات بينها وتفشي ذلك بين شعوبها وتكرس ثقافة التصالح مع الآخر ومع النفس كي يزاح الإبهام المعكر لسمائها وتحارب التيه في شعوبها المستضعفة لفهم جدوى وجودها ومقاصدها وأهدافها… وللبقية حديث.