د. عبد اللطيف سيفيا
بقية الحديث … هل نحن فعلا من يساهم في صنع الفساد وتكريسه علينا؟ سؤال صريح بعيد عن المجاز ، حين نقارنه بما نعيشه من أحداث يومية وموسمية وما نتبعه في معاملاتنا وتصرفاتنا . مما يجعلني أوسح دائرة طرح الاسئلة الاستنكارية والتي لا تكاد تنتهي وعلى صيغة “هل صحيح أن بطوننا أصبحت تتحكم في عقولنا؟” إنه سؤال مصيري فعلا ويتطلب التفكير في عمقه بكل إمعان ، ويذكرني بمقولة شعبية لطالما سمعتها أيام كنت صغيرا ، وكنت آخذها على سبيل المزاح ، لكن أول ما نضجت وصرت أهتم بالمواقف وصورها ونعوتها وما تحمله من معان تعبر عن محتواها وقيمتها وأهدافها والمراد من توظيفها واستغلالها ، وتمكنت من معرفتها حق المعرفة ، وبعد التحليل واعتماد العديد من الآليات والأساليب العلمية والواقعية ، أصدرت حكما واثقا ، وليس بالعبثي أوالجائر أو المتحيز ، على مواقف السلف في العديد مما صدر عنهم من كلام وحكم وأحكام ونصائح ومأثورات ، بعد أن عملت على تكريسها على واقعنا ومحاولة قياسها بالمواقف الحاضرة في وقتنا هذا وجعلها تتوافق معها في الطباق والجناس وعبر مؤشرات القرابة التي تجمع بينها وتربطها ببعضها البعض ، فكانت الصدمة كبيرة نظرا لما وجدته من تشابه بين المواقف الحالية وتلك التي عاشها السلف ، وتركوا لنا صورا منها تتطابق معها لدرجة التوأمة وتسير على نمطها ونهجها بطريقة لا تصدق ، رغم فارق الزمان والمكان والبعد الواضح بينهما ، لكن سبحان الله ، وكأن الزمن يعيد نفسه والكلام والعادات والصفات تتجسد في أرواح أشخاص آخرين ويحملونها كإرث بأمانة ولا يفرطون في حدافرها قيد أنملة ، فوجدت فعلا أن هذه الصفات ، وخاصة المنبوذة منها ، لازالت تتعايش بيننا لدى أشخاص مخلصين بشكل أعمى لحمولاتها ومعانيها وأهدافها الضيقة ، مكرسين لإديولوجياتها وتمثلاتها التي لا تعكس موضوعيا الشروط الواقعية لحياة الناس ، بل تسعى إلى تشويهها وإعطاء صورة معكوسة عن الواقع وجعله يتأسس على الوهم والظن الفاسد، واعتماد الخداع الحسي وكل الطرق ، سواء منها المباحة او المحظورة ، والوسائل المتاحة في تمويه الواقع فيتجلى سعيهم ذلك في مواقف متعددة وكثيرة دون انفصام عنها ، وتعبر عن حقيقة ضعف شخصيتهم ودناءة أفكارهم ليحق القول فيهم كما يحق في الذباب الذي يتهافت على الأوساخ والنجاسة ولا يهتم لشأن ما لذ وطاب من الحلويات والأطعمة الشهية ، تماما كما يعبر عنه بالمثل القائل ” الخرية تبحث عن أختها في قعر البحر ” بحيث تجد عددا من المدمومين والفاسدين يخلقون علاقات ود ومحبة وقرابة وصداقة بينهم ، وتجمعهم المصالح الخبيثة من كل صوب فيسعون في الخراب ، ويؤسسون لتكثلات ولوبيات تخدم مصالحهم وتقوي نفوذهم ومراكزهم للهيمنة على الأوضاع والتحكم فيها بكل أريحية ، في حين نجد في المقابل أشخاصا آخرين يصدق عليهم المثل القديم أيضا و القائل بأن “عقلهم في ذبرهم” حيث لاحظت فعلا أن عددا لا يستهان به من هؤلاء هم دون الاهتمام بمجريات الأمور المصيرية والهمة ، وشغلهم الشاغل لا يتجاوز الأمور التافهة مستمتعين بمناولتها خير استمتاع ، منهمكين في ممارسة الضياع المادي و المعنوي ، متنافسين بكل افتخار وتبجح ، في ممارسة الرذيلة والفساد الأخلاقي والاجتماعي ، تائهين يعمهون في ظلماتهم كمن ذهب الله بنورهم ، ونجدهم يمثلون وللأسف الشديد ، نسبة كبيرة ممن استباحوا لأنفسهم الفساد والضياع دون إحساس بالمسؤولية الأسرية والاجتماعية والوطنية والانسانية ، لينطبق عليهم قول الله تعالى “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ” وقوله تعالى ” يخربون بيوتهم بأيديهم “…
ولا يفوتني أن أذكر قصة أحد أفراد الجالية المغربية بالخارج ، حيث تساءل بعد عودته إلى أرض الوطن ، عند استفادته من حقه في التقاعد بعد 30 سنة من العمل الشاق ، عن سبب عدم استفادة مزاولي القوادة الذين تركهم كذلك منذ مغادرته للبلاد نحو أرض المهجر ، من هذه الميزة ” ميزة التقاعد” لأنه بعد عودته إلى أرض الوطن وجد أنهم لا زالوا كعهدهم بها يمارسون هذه المهنة باستمرار ونشاط وحيوية ، ولم ينقطعوا عنها البتة … والأمثلة المرضية كهذه كثيرة ومتعددة في مجتمعنا ولا يمكن حصرها ، الأمر الذي جعل الفساد يشيع في هذا المجتمع ويستشري بين المواطنين في صور متعددة ، والله وحده أعلم بالوجهة والمسار والمصير ، دون أن يستعيذ بالله هؤلاء المفسدون أو يتراجعوا عن خصالهم وأعمالهم الشيطانية ، بل اصبحوا يحسون وكأن ذلك حق مكتسب ولهم كامل المشروعية والحرية في ممارسته حسب مصالحهم الخاصة دون التفكير في مصلحة البلاد والعباد ، بل اصبحوا بعد استفحالهم فسادهم وتشكيلهم لقوة ضاغطة سياسيا واقتصاديا وحزبيا ونقابيا ، يعتبرون قدوة للآخرين الذين ما انفكوا يتحولون إلى جيوش شعبية رهن إشارتهم ويعودون إلى قواعدها عند الحاجة ، فتتوسع دائرة الفساد بفضل هذه القواعد والاغلبيات المتمثلة فينا كمواطنين كادحين ومناضلين فاعلين في تكريس أوجه الفساد الذي ينطلق منا ويعود إلينا ، ينطلق منا كمتاجرين في رقابنا ورقاب أبنائنا والضعاف فينا خلال محطات منح لنا فيها الدستور والقانون حق الدفاع عن الحقوق والحفاظ على المكتسبات ، لكن للاسف نبيع ذممنا وكبرياءنا وكرامتنا بأبخس الاثمنة ، وكأننا معروضون في سوق النخاسة كخردة آدمية تستبيح العبث بمصيرها ومصير وطنها … فكفى عبثا بمصير البلاد والعباد ، فلتتوحد كل القوى من أحزاب ونقابات وجمعيات المجتمع المدني وصحافة وإعلام ومؤسسات كي تقوم قومة رجل واحد وبقرار واحد لا رجعة فيه لمواجهة الصعوبات التي تعرقل سير عجلة النمو في البلاد والأخذ بالأسباب والظروف والآليات التي يمكن أن تضع قطار التنمية والازدهار والتقدم على السكة الصحيحة ، ولنكن بررة لهذا الوطن الذي هو أمانة بين أيدينا ، ولنقم بواجبنا إزاءه بما يرضي الله ، كل من زاويته ومسؤوليته بضمير وطني حي ، ولنحارب الفساد والمفسدين بما أوتينا من قوة ، ولنكن قدوة صالحة في خدمته والدفاع عنه ، ولا عاش من خانه وللحديث بقية …